شبكة قدس الإخبارية

عن ظاهرة أبو شباب.. العميل المؤسسي حين يرث مفردات التنسيق الأمني 

٢١٣

 

cNGlm
إبراهيم عز الدين

لم يكشف وزير جيش الاحتلال السابق أفيغدور ليبرمان سرا عندما صرّح بأن بعض الميليشيات في قطاع غزة، يتم دعمها من جيش الاحتلال وتوجيهها من حكومة الاحتلال. ولم يحاول مكتب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أن يخفي سرا عندما رد بالقول إن هناك طرق عدة لإخضاع حركة حماس يجري التنسيق بشأنها بموافقة الأذرع العسكرية والاستخباراتية. المقصود في هذه القضية، هو معتقل جنائي سابق لدى الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، يُدعى ياسر أبو شباب، يقود مجموعة من المسلحين يتمركزون في مناطق سيطرة جيش الاحتلال في رفح جنوب قطاع غزة. 

تُعدّ ظاهرة ياسر أبو شباب في رفح واحدة من أكثر التجلّيات خطورةً لنموذج العميل المؤسسي الذي ينشأ في سياقات استثنائية، ويتغذى على الفراغ الأمني وموروث منطق التنسيق الأمني. فليس الحديث هنا عن شخص فرد أقدم على خيانة وطنه بتسريب معلومات، بل عن تموضع بنيوي لميليشيا من العملاء تستغل واقع الفراغ والفوضى الناتج عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لا سيما في محيط رفح الجنوبي، حيث تُطحن البنية الاجتماعية والعسكرية والمدنية في آنٍ واحد. ظهور ياسر أبو شباب في مقطع فيديو مصور، وهو يتحرك بشكل مسلح في منطقة اشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي، وادعاؤه أنه يمثل ما سماه "القوات الشعبية" التي "تحمي المساعدات"، ترافق مع سلسلة من الشهادات والتقارير الميدانية التي أشارت إلى انخراط هذه المجموعة في أعمال نهب، ومرافقة آليات الاحتلال، بل والاعتداء على الأهالي في بعض المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال.

ظاهرة من هذا النوع لا يمكن فهمها خارج إطارها الأمني والسياسي. إن "العميل" في سياق هذه الظاهرة لم يعد مجرد شخص متعاون مع العدو في الخفاء، بل يصبح في كثير من الحالات بنية مؤسساتية كاملة، تتشكل عبر التوظيف والتدريب والدعم، وتحاول دمج نفسها في المجتمع كقوة أمنية محلية تمارس الخيانة باسم النظام وحماية الأهالي، لكنها تؤدي وظيفتها الفعلية في خدمة الاحتلال. هذا ما يسميه بعض الخبراء الأمنيين بـ"الوكالة المؤسسية للخيانة".  في الحالة الفلسطينية، ظهر هذا النمط بوضوح منذ تأسيس أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بعد أوسلو، التي وُظّفت وظيفيًا في مشروع "ضبط الداخل"، وتم تدريب أفرادها على يد الولايات المتحدة ودول أوروبية تحت شعار "بناء مؤسسات الدولة". إلا أن ما بُني فعليًا هو جهاز بيروقراطي معزول عن التوجه الحقيقي للشعب. ياسر أبو شباب، في هذا السياق، ليس استثناءً بل نموذجًا مكثفًا لهذه البنية التي تظهر في لحظات الانهيار الوطني -أوسلو نموذجا-.

ما يُضاعف من خطورة هذه الظاهرة هو ارتباطها الوثيق بنظرية "الميليشيات الأصلية"، التي طُبّقت في حالات استعمارية مختلفة مثل الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي، أو جنوب لبنان في زمن "جيش لحد". وفق هذه النظرية، فإن قوى الاحتلال تستعين بقوى محلية من السكان الأصليين لضبط مجتمعهم، وتُمنح هذه القوى صفة رسمية، وقدرات مسلحة، وصلاحيات تُفوق أحيانًا ما يُمنح للجيش النظامي، مقابل أداء وظيفة محددة: قمع الاحتجاج، واحتواء المقاومة، وفرض منطق الاحتلال من الداخل. من خلال هذا الإطار يمكن قراءة مجموعة أبو شباب، التي لم تكتفِ بالتحرك في المناطق المنكوبة، بل عمدت إلى ربط نفسها بخطاب أمني زائف، وادعت أنها تحمي المساعدات في حين أن الشهادات الميدانية أظهرت تورطها في التلاعب بالمساعدات ومهاجمة الأهالي.

السياق الذي سمح بنمو هذه الظاهرة هو الحرب على غزة والتي خلقت فراغًا ميدانيًا، إذ انسحبت فيه المقاومة من بعض الجيوب بفعل الضغط العسكري، وانكفأت فيه القوى المدنية بفعل الدمار، وارتبكت فيه البنية الإدارية في ظل انهيار شامل. في هذه اللحظة، تتسلل قوى تبحث عن النفوذ، وتستغل الغياب المؤسسي والمجتمعي لتقدم نفسها كـ"قوة بديلة"، مستخدمة السلاح، والعلاقات الشخصية، والانتماء القبلي، والتضليل الإعلامي كأدوات فرض واقع. وهو ما حصل فعليًا حين حاول أبو شباب إظهار نفسه كزعيم محلي، مستندًا إلى قبيلته، قبل أن تصدر الأخيرة بيانًا رسميًا تتبرأ فيه منه، وتتهمه بالمشاركة في أعمال نهب، وخدمة الاحتلال.

ضمن هذا السياق، تعيد ظاهرة أبو شباب إنتاج واحدة من أخطر المفارقات في المجتمعات الواقعة تحت الاحتلال: أن السيطرة لا تُفرض فقط بالقوة العسكرية المباشرة، بل أيضًا عبر أجسام محلية تُنتج داخل المجتمع، لكنها تنتمي وظيفيًا إلى الاحتلال الذي يمارس الإبادة الاجتماعية بحق هذا المجتمع. هذه المفارقة كانت دومًا سمة من سمات الاستعمار الحديث، من جيش المستعمرين المحليين في كينيا، إلى أجهزة الأمن الخاصة في جنوب أفريقيا العنصرية، إلى الجيش الجبلي في الجزائر. في جميع تلك الحالات، مثّل العملاء المنظمون تهديدًا مزدوجًا: من جهة لأنهم يعرفون المجتمع من الداخل ويملكون أدوات اختراقه، ومن جهة أخرى لأنهم يلبسون ثوب الوطنية، ما يجعلهم أكثر قدرة على خداع الناس.

التصدي لظاهرة كهذه لا يكون فقط بإدانة فردية فقط، بل يتطلب أيضًا مساءلة شاملة للبنية الأمنية الفلسطينية، ولسردية "النظام لا يقبل وجود المقاومة" وهي السردية الغالبة على الخطاب الرسمي الفلسطيني الذي تقوده السلطة الفلسطينية. هذه السردية التي أدت إلى تحويل أجهزة أمنية بأكملها إلى أدوات ضبط، تمارس العنف باسم النظام وحماية الوطن بينما تبتعد عن مشروع التحرر. فحين لا تُبنى الأجهزة الأمنية على عقيدة وطنية، بل على منطق الحفاظ على الاستقرار لحساب الاحتلال، فإنها تتحول حتمًا إلى أداة قمع، حتى لو ارتدت الزي الفلسطيني ورفعت شعار النظام وحماية الوطن. 

ربما يكون أخطر ما في ظاهرة أبو شباب هو أنها كشفت كيف يمكن لقوة محلية أن تتحول إلى امتداد مباشر لأجندة الاحتلال، وأن تفعل ذلك تحت راية كاذبة من "الحرص على النظام"، بينما هي تنهش الجرح الفلسطيني المفتوح. إنها تذكير قاسٍ بأن الاحتلال لا يحتاج دائمًا إلى جنوده كي يفرض سيطرته، بل يكفيه أحيانًا أن يبني في قلب المجتمع من يقوم بمهمته، ويصوّب سلاحه على أبناء جلدته. إن النضال الحقيقي ضد العملاء لا يكتمل إلا بالنضال ضد البنية التي تنتجهم، وضد الثقافة التي تبررهم، وضد الرواية التي تمنحهم غطاء زائفًا باسم الأمن أو الاستقرار أو القانون وحماية الوطن. وبهذا المعنى، فإن ياسر أبو شباب ليس مجرد اسم في قائمة الخيانة، بل هو مرآة تعكس أزمة أكبر في فهم معنى السلطة، الأمن، ومن هو العدو الحقيقي.

ما بين "حماية وطن".. و"حماية الأهالي"

لا يختلف منطق ياسر أبو شباب كثيرا عن المنطق المؤسس لظاهرة العمل الأمني لصالح الاحتلال. يتضح هذا في المنشورين المرفقين. القاسم المشترك بين الخطابين الصادرين عن ياسر أبو شباب باسم "القوات الشعبية" وعن أنور رجب باسم "قوى الأمن الفلسطيني"، يكمن في إعادة إنتاج خطاب محاربة المقاومة وأدواتها بوصف ذلك مشروعا سياسيا وأمنيا مُمأسسا يُعيد تعريف وظيفة الأمن لدى الشعب المحتل. وفق نظرية "العميل المؤسسي"، لا يُنظر إلى العميل كشخص متعاون فردي مع الاحتلال، بل كنتاج لبنية مؤسساتية كاملة تتبنى، عن وعي أو دون وعي، دورًا وظيفيًا يُسهم في تكريس أهداف الاحتلال ومصالحه وحمايته من قوى المقاومة تحت شعارات "الضبط الأمني و"حماية المدنيين"، و"فرض القانون" و"بناء على طلب الأهالي"، وهي ذات المفردات التي تتكرر في كلا الخطابين.

ياسر أبو شباب يدّعي أن إزالة العبوات الناسفة تأتي "خدمة للأهالي" وتمهيدًا لعودة العائلات، في خطاب يُفرغ المقاومة من معناها عبر تصوير العبوات كعائق أمام الحياة، لا كأداة للدفاع عن الوجود. وبالمثل، يُعيد خطاب أنور رجب تعريف مهمة أجهزة السلطة في جنين باعتبارها تطبيقًا للقانون وإزالةً "لأدوات الفوضى"، متجاهلًا كليًا السياق الاحتلالي الذي أنتج هذه العبوات بوصفها ردًّا على الاقتحامات اليومية والاغتيالات المتكررة. القاسم المشترك هنا ليس فقط في المضمون، بل في الوظيفة السياسية: كلا الخطابين يُحوّلان وظيفة الأمن من حماية الشعب من الاحتلال إلى حماية الاحتلال من الشعب، ويعيدان توصيف المقاومة باعتبارها خطرًا داخليًا، لا ردًا مشروعًا على الاحتلال. هذا بالضبط يذّكر بتجارب أخرى في سياقات مختلفة حين يصبح الأمن المحلي جزءًا من منظومة الاحتلال الأمنية، يتحدث بلسان أهل البلد لكنه يخدم مصالح السيطرة. باختصار، القاسم الجوهري بين الخطابين هو تبرير التدخل في بيئات المقاومة من خلال تطبيع فكرة نزع أدوات الاشتباك وتحويلها إلى "تهديد داخلي" يستدعي المعالجة الأمنية، وهو ما يرسّخ منطق "العميل المؤسسي" الذي يؤدي وظيفته القمعية تحت عباءة "الخدمة العامة".

شهداء لصالح من ؟! 

مراجعة منشورات ياسر أبو شباب وأنور رجب لا تدّع مجالا للشك أن بنية الخطاب واحدة. مثلا، في توصيف من قتلوا خلال محاربتهم للمقاومة الفلسطينية سواء في جنين أو رفح، يستخدم الاثنان مصطلح "شهداء الواجب الوطني"، وهذا يعدّ تمثل تمظهرًا كلاسيكيًا لما تصفه الدراسات الأمنية بـ"أسطرة العميل المؤسسي"، حيث يجري إعادة تعريف أدوار أمنية مثيرة للجدل، بل ومرتبطة بمساندة الاحتلال أو ملاحقة المقاومة، على أنها بطولة وطنية تستحق التخليد والتكريم. في الحالتين، يَسقط عناصر من أجهزة أمنية أو ميليشيا محلية خلال تنفيذهم مهامًّا لا يمكن فصلها عن الوظيفة الأمنية المرتبطة بالتنسيق مع الاحتلال أو إحباط الفعل المقاوم. 

في جنين، كان السياق هو تفكيك عبوات وملاحقة مطاردين داخل المخيم. في رفح، ظهر عناصر "القوات الشعبية" الذين قُتلوا أثناء تمشيطهم المنطقة لتفكيك العبوات والأنفاق تمهيدا لتقدم جيش الاحتلال، وهو ما اعتبرته المقاومة تعاونًا مباشرًا مع جيش الاحتلال، وردّت بتفجير عبوة أودت بأربعة منهم. في كلا الخطابين، يُعاد توصيف هؤلاء كـ"شهداء واجب وطني"، ويُستخدم هذا اللقب لتجميل وظيفة سياسية/أمنية مشبوهة، لا التحرر. التسمية لا تُشير إلى من هو العدو، ولا كيف سقطوا، بل تكتفي بإطار أخلاقي عاطفي يرفع من شأنهم ويُجرّم ضمنيًا من قتلهم، وكأن القاتل هو الفوضى أو "الخطر الميداني"، لا المقاومة.

ما يتكشّف هنا هو استخدام ممنهج لمفهوم "الشهادة" لإعادة الشرعية إلى أجهزة أو عناصر فقدت شرعيتها ميدانيًا. وبهذا، يُصبح عنصر الأمن الذي يُفكك عبوة مقاومة، أو يُلاحق مطاردًا، شهيدًا للوطن، بينما يُجرّم المقاوم الذي زرع العبوة أو واجه الاقتحام وهو انقلاب خطير في المفاهيم. "شهداء الواجب الوطني" هنا ليسوا مجرد ضحايا، بل أدوات في مشروع سياسي/أمني يُحاول استعادة الهيمنة على المجال العام الفلسطيني، لا عبر مواجهة الاحتلال، بل عبر مواجهة من يقاوم الاحتلال، ثم تسويق ذلك على أنه خدمة للأمن والاستقرار، متجاهلين أن الوطن، الذي ضحّوا من أجله كما يقول الخطاب، ليس حرًا ولا آمنًا، بل محتل ومحاصر ومجتاح، وأن العبوة ليست خطرًا داخليًا، بل لغة صراع مع الاحتلال. بالتالي، فإن "شهداء الواجب الوطني" لا يمثلون فقط مأساة أفراد، بل أزمة خطاب، وأزمة وظيفة، وأزمة انتماء في مشروع سياسي تحوّل من التحرر إلى الحراسة.